فصل: سبب نزول صدر هذه السورة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة التحريم

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 5‏)‏

‏{‏ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ‏.‏ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم ‏.‏ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ‏.‏ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ‏.‏ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ‏}‏

أُختلف في  سبب نزول صدر هذه السورة، فقيل‏:‏ نزلت في شأن مارية وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد حرمها فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك‏}‏ الآية، روى النسائي، عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة، حتى حرمها، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك‏}‏ إلى آخر الآية ‏"‏أخرجه النسائي في سننه‏"‏، وروى ابن جرير، عن زيد بن أسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصاب أُم إبراهيم في بيت بعض نسائه، فقالت‏:‏ أي رسول اللّه في بيتي وعلى فراشي‏؟‏ فجعلها عليه حراماً، فقالت‏:‏ أي رسول اللّه كيف يحرم عليك الحلال‏؟‏ فحلف لها باللّه لا يصيبها، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك‏}‏ ‏"‏رواه ابن جرير‏"‏‏؟‏‏!‏ وعن مسروق قال‏:‏ آلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحرم، فعوقب في التحريم، وأُمر بالكفارة باليمين ‏"‏رواه ابن جرير أيضاً‏"‏، وعن سعيد بن جبير‏:‏ أن ابن عباس كان يقول في الحرام يمين تكفرها، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة‏}‏ يعني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حرم جاريته، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك‏}‏ إلى قوله ‏{‏قد فرض اللّه لكم تحلة أيمانكم‏}‏ فكفّر يمينه فصيّر الحرام يميناً ‏"‏أخرجه ابن جرير، ورواه البخاري عن ابن عباس بنحوه‏"‏، ومن ههنا قال بعض الفقهاء بوجوب الكفارة على من حرّم جاريته، أو زوجته، أو طعاماً أو شراباً، أو شيئاً من المباحات وهو مذهب الإمام أحمد، وذهب الشافعي إلى

أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية إذا حرم عينيهما، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمَة نفذ فيهما، والآية نزلت في تحريمه العسل كما روى البخاري عن عائشة قالت‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له‏:‏ أكلت مغافير‏؟‏ إني أجد منك ريح مغافير، قال‏:‏ ‏(‏لا ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً‏)‏ ‏{‏تبتغي مرضات أزواجك‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري‏"‏‏.‏

وقال البخاري في ‏(‏كتاب الطلاق‏)‏ عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغرت، فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت النبي صلى اللّه عليه وسلم منه شربة، فقلت‏:‏ أما واللّه لنحتالنَّ له، فقلت لسودة بنت زمعة‏:‏ إنه سيدنو منك، فإذا دنا فقولي‏:‏ أكلت مغافير، فإنه سيقول لا، فقولي له‏:‏ ما هذه الريح التي أجد‏؟‏ سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل، فقولي‏:‏ جرست نحله العرفط وسأقول ذلك، وقولي له أنت يا صفية ذلك، قالت، تقول سودة‏:‏ فواللّه ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقاً منك، فلما دنا منها، قالت له سودة‏:‏ يا رسول اللّه أكلت مغافير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قالت‏:‏ فما هذه الريح التي أجد منك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏سقتني حفصة شربة عسل‏)‏، قالت‏:‏ جرست نحلة العرفط، فلما دار إليّ، قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له‏:‏ يا رسول اللّه ألا أسقيك منه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا حاجة لي فيه‏)‏، قالت‏:‏ تقول سودة واللّه لقد حرمناه، قلت لها‏:‏ اسكتي‏.‏ هذا لفظ البخاري ولمسلم، قالت‏:‏ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح، يعني الريح الخبيثة، ولهذا قلن له أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء، فلما قال‏:‏ ‏(‏بل شربت عسلاً‏)‏ قلن‏:‏ جرست نحلة العرفط، أي رعث نحله شجر العرفط الذي صمغه المغافير، فلهذا ظهر ريحه في العسل الذي شربته، قال الجوهري‏:‏ جرست النحل العرفط إذا أكلته، ومنه قيل للنحل جوارس، وفي رواية عن عائشة أن زينب بنت جحش هي التي سقته العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه فاللّه أعلم، وقد يقال إنهما واقعتان، ولا بعد في ذلك إلا أن كونهما سبباً لنزول هذه الآية فيه نظر، واللّه أعلم‏.‏

ومما يدل على أن عائشة وحفصة رضي اللّه عنهما هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال‏:‏ لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم اللتين قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما‏}‏ حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر، وعدلت معه بالإداوة، فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ من المرأتان من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم اللتان قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما‏}‏‏؟‏ فقال عمر‏:‏ واعجباً لك يا ابن عباس، قال الزهري‏:‏ كره واللّه ما سأله عنه ولم يكتمه، قال‏:‏ هي عائشة وحفصة قال‏:‏ ثم أخذ يسوق الحديث، قال‏:‏ كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال‏:‏ وكان منزلي في دار أُميَّة بن زيد بالعوالي، فغضبت يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت‏:‏ ما تنكر أن أراجعك فواللّه إن أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال‏:‏ فانطلقت فدخلت على حفصة، فقلت‏:‏ أتراجعين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قلت‏:‏ وتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قلت‏:‏ قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب اللّه عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت، لا تراجعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا تسأليه شيئاً، وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أي أجمل وأحب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، منك - يريد عائشة - ، قال‏:‏ وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتتاوب النزول إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، قال‏:‏ وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوماً، ثم أتى عشاء، فضرب بابي، ثم ناداني، فخرجت إليه، فقال‏:‏ حدث أمر عظيم، فقلت‏:‏ وما ذاك، أَجاءت غسان‏؟‏ قال‏:‏ لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه، فقلت‏:‏ قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائناً، حتى إذا صليت الصبح شددت عليَّ ثيابي، ثم نزلت، فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت‏:‏ أطلقكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ فقالت‏:‏ لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلاماً له أسود، فقلت‏:‏ استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال‏:‏ ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قليلاً، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام، فقلت‏:‏ استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي، فقال‏:‏ قد ذكرتك له فصمت فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت‏:‏ استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي فقال‏:‏ قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبراً، فإذا الغلام يدعوني، فقال‏:‏ ادخل قد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإذا هو متكئ على رمال حصير وقد أثر في جنبه، فقلت‏:‏ أطلقت يا رسول اللّه نساءك‏؟‏ فرفع رأسه إليّ، وقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، فقلت‏:‏ اللّه أكبر، ولو رأيتنا يا رسول اللّه وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومهم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت‏:‏ ما تنكر أن أراجعك‏؟‏ فواللّه إن أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت، أفتأمن إحداكن أن يغضب اللّه عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت‏؟‏ فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول اللّه قد دخلت على حفصة، فقلت‏:‏ لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منك، فتبسم أُخْرى، فقلت‏:‏ أستأنس يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، فجلست فرفعت رأسي في البيت فواللّه ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر إلا أهب مقامه، فقلت‏:‏ ادع اللّه يا رسول اللّه أن يوسع على أُمتك، فقد وسع على فارس والروم، وهم لا يعبدون اللّه، فاستوى جالساً وقال‏:‏ ‏(‏أفي شك أنت يا ابن الخطاب‏؟‏ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا‏)‏، فقلت‏:‏ استغفر لي يا رسول اللّه، وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن، حتى عاتبه اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏

وروى البخاري عن أنَس قال، قال عمر‏:‏ اجتمع نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن‏:‏ ‏{‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن‏}‏ فنزلت هذه الآية، وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن منها في نزول الحجاب ومنها في أسارى بدر، ومنها قوله‏:‏ لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري في صحيحه‏"‏‏.‏ وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات‏}‏ ظاهر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سائحات‏}‏ أي صائمات قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد، وتقدم فيه حديث مرفوع، ولفظه ‏(‏سياحة هذه الأمة الصيام‏)‏، وقال زيد بن أسلم ‏{‏سائحات‏}‏ أي مهاجرات، وتلا ‏{‏السائحون‏}‏ أي المهاجرون، والقول الأول أولى، واللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكاراً‏}‏ أي منهن ثيبات، ومنهن أبكاراً، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فإن التنوع يبسط النفس، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكاراً‏}‏ أي منهن ثيبات، ومنهن أبكار، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فإن التنوع يبسط النفس، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكار‏}‏ قال‏:‏ وعد اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه، فالثيب آسية امرأة فرعون، وبالأبكار مريم بنت عمران ‏"‏رواه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير‏"‏، وذكر الحافظ ابن عساكر، عن ابن عمر قال‏:‏ جاء جبريل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمرت خديجة فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه يقرؤها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب، بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وأسية بنت مزاحم‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن عساكر في ترجمة مريم عليها السلام‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6 ‏:‏ 8‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ‏.‏ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ‏.‏ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ‏}‏

قال علي رضي اللّه عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُوْا أنفسكم وأهليكم ناراً‏}‏ يقول أدبوهم وعلموهم، وقال ابن عباس‏:‏ اعملوا بطاعة اللّه واتقوا معاصي اللّه وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم اللّه من النار، وقال مجاهد‏:‏ اتقوا اللّه وأوصوا أهليكم بتقوى اللّه، وقال قتادة‏:‏ تأمرهم بطاعة اللّه وتنهاهم عن معصية اللّه، وأن تقوم عليهم بأمر اللّه وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها، وقال الضحاك‏:‏ حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض اللّه عليهم وما نهاهم اللّه عنه، وفي معنى هذه الآية الحديث الشريف‏:‏ ‏(‏مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي‏"‏، قال الفقهاء‏:‏ وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمريناً له على العبادة لكي يبلغ، وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقودها الناس والحجارة‏}‏ وقودها‏:‏ أي حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم، ‏{‏والحجارة‏}‏ قيل‏:‏ المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم‏}‏، وقال ابن مسعود ومجاهد‏:‏ هي حجارة من كبريت، أنتن من الجيفة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليها ملائكة غلاظ شداد‏}‏ أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين باللّه ‏{‏شداد‏}‏ أي تركبيهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج، كما روى ابن حاتم، عن عكرمة أنه قال‏:‏ إذا وصل أول أهل النار إلى النار، وجدوا على الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد نزع اللّه من قلوبهم الرحمة، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة، لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر، ثم يجدون على الباب التسعة عشر، عرض صدر أحدهم سبعون خريفاً، ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة، ثم يجدون على كل باب منها مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة موقوفاً‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ أي مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه، لا يتأخرون عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه، وهؤلاء هم الزبانية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون‏}‏ أي يقال للكفرة يوم القيامة لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحاً‏}‏ أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات، قال عمر التوبة النصوح أن يتوب من الذنب، ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه، وقال أبو الأحوص‏:‏ سئل عمر عن التوبة النصوح، فقال‏:‏ أن يتوب الرجل من العمل السيء، ثم لا يعود إليه أبداً، وقال ابن مسعود ‏{‏توبة نصوحاً‏}‏ قال‏:‏ يتوب ثم لا يعود، ولهذا قال العلماء‏:‏ التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه، وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏الندم توبة‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد وابن ماجه عن عبد اللّه بن مسعود مرفوعاً‏"‏، وعن أُبيّ بن كعب قال‏:‏ قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمّة عند اقتراب الساعة‏:‏ منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، وذلك مما حرم اللّه ورسوله ويمقت اللّه عليه ورسوله، ومنها نكاح الرجل الرجل، وذلك مما حرّم اللّه ورسوله ويمقت اللّه عليه ورسوله، ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرم اللّه ورسوله ويمقت اللّه عليه ورسوله، وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى اللّه توبة نصوحاً، قال زر‏:‏ فقلت لأُبي بن كعب‏:‏ فما التوبة النصوح‏؟‏ فقال‏:‏ سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ ‏(‏هو الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر اللّه بندامتك منه عند الحاضر ثم لا تعود إليه أبداً‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏(‏التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته‏)‏ فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطيئات، كما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها‏)‏، وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات - كما تقدم في الحديث وفي الأثر - ثم لا يعود فيه أبداً، أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضاراً في تكفير ما تقدم لعموم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏التوبة تجب ما قبلها‏)‏‏؟‏ وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضاً‏:‏ ‏(‏من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء بالإسلام أُخذ بالأول والآخر‏)‏ فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة، فالتوبة بطريق الأولى، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ وعسى من اللّه موجبة ‏{‏يوم لا يخزي اللّه النبي والذين آمنوا معه‏}‏ أي ولا يخزيهم معه يعني يوم القيامة ‏{‏نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم‏}‏، كما تقدّم في سورة الحديد‏:‏ ‏{‏يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير‏}‏ قال مجاهد والضحّاك‏:‏ هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طفئ‏.‏ روى الإمام أحمد عن يحيى بن غسان عن رجُل من بني كنانة قال‏:‏ صلّيت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الفتح فسمعته يقول‏:‏ ‏(‏اللهم لا تخزني يوم القيامة‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏)‏أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر بين يدي فأعرف أُمّتي من بين الأمم وأنظر عن يميني فأعرف أُمّتي من بني الأمم، وأنظر عن شمالي فأعرف أُمّتي من بين الأمم‏(‏، فقال رجل‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ وكيف تعرف أُمّتك من بين الأمم‏؟‏ قال‏:‏ ‏)‏غر محجلون من آثار الطهور، ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم‏)‏ ‏"‏رواه محمد بن نصر المروزي عن أبي ذر وأبي الدرداء‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏9 ‏:‏ 10‏)‏

‏{‏ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ‏.‏ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ‏}‏

يقول تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم بجهاد الكفّار والمنافقين هؤلاء بالسلاح والقتال، وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم ‏{‏وأغلظ عليهم‏}‏ أي في الدنيا، ‏{‏ومأواهم جهنم وبئس المصير‏}‏ أي في الآخرة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب اللّه مثلاً للذين كفروا‏}‏ أي في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم

أن ذلك لا يجدي عنهم شيئاً، إذ لم يكن الإيمان خالصاً في قلوبهم، ثم ذكر المثل فقال‏:‏ ‏{‏امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين‏}‏ أي نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلاً ونهاراً، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشر والاختلاط، ‏{‏فخانتاهما‏}‏ أي في الإيمان لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، فلم يجد ذلك كله شيئاً ولا دفع عنهما محذوراً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلم يغنيا عنهما من اللّه شيئاً‏}‏ أي لكفرهما، ‏{‏وقيل‏}‏ أي للمرأتين ‏{‏ادخلا النار مع الداخلين‏}‏، وليس المراد بقوله ‏{‏فخانتاهما‏}‏ في فاحشة بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء، كما قدمنا في سورة النور، قال ابن عباس ‏{‏فخانتاهما‏}‏ قال‏:‏ ما زنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه، وقال الضحّاك‏:‏ عن ابن عباس‏:‏ ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم وهو الصحيح كما قال ابن عباس‏:‏ خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما

 الآية رقم ‏(‏11 ‏:‏ 12‏)‏

‏{‏ وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ‏.‏ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ‏}‏

وهذا مثل ضربه اللّه للمؤمنين، أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ قال قتادة‏:‏ كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فواللّه ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها، ليعلموا أن اللّه تعالى حكم عدل لا يؤاخذ أحداً إلا بذنبه، وروى ابن جرير، عن سلمان قال‏:‏ كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة، فقولها‏:‏ ‏{‏رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة‏}‏ قال العلماء‏:‏ اختارت الجار قبل الدار، ‏{‏ونجني من فرعون وعمله‏}‏ أي خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله ‏{‏ونجني من القوم الظالمين‏}‏ وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم رضي اللّه عنها، عذَّبها فرعون فشدَّ يديها ورجليها بالأوتاد وهي صابرة، فرأت بيتها في الجنة فضحكت حين رأته، فقال فرعون‏:‏ ألا تعجبون من جنونها‏!‏ إنا نعذّبها وهي تضحك، فقبض اللّه روحها في الجنة رضي اللّه عنها‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها‏}‏ أي حفظته وصانته، والإحصان‏:‏ هو العفاف والحرية ‏{‏فنفخنا فيه من روحنا‏}‏ أي بواسطة الملك وهو جبريل فإن اللّه بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سوي، وأمره اللّه تعالى أن ينفخ فيه بفِيهِ في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها، فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فنفخنا فيه من روحنا وصدَّقت بكلمات ربها وكتبه‏}‏ أي بقدره وشرعه، ‏{‏وكانت من القانتين‏}‏‏.‏ وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان‏"‏‏.‏